فصل: الباب الرابع من المقالة الثالثة في الفواتح والخواتم واللواحق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني في التعيين وكيفية كتابة صاحب ديوان الإنشاء على الرقاع والقصص وتعيينها على كتاب الإنشاء:

ويختلف الحال في ذلك باختلاف حال الكاتب المعين عليه وحال الرقعة المعينة. فأما اختلافه باختلاف حال من يعين عليه. فإنه إن كان المعين عليه كاتباً من كتاب الدست، كتب له كاتب السر في التعيين: المولى القاضي، فلان الدين، أعزه الله تعالى وربما رفع قدره على ذلك فيكتب له: المولى، الأخ، القاضي، فلان الدين، أعزه الله تعالى. وإن كان من كتاب الدرج: فإن كان كبيراً كتب له: المولى فلان الدين. وإن كان صغيراً، كتب له: الولد فلان الدين وربما وقع التمييز لبعض كتاب الدست أو كتاب الدرج للتقدم بالفضل فكتب له: المولى، الشيخ فلان الدين أو الشيخ فلان الدين تارةً مع الدعاء وتارة دونه.
وأما اختلافه باختلاف حال المكتوب الذي يعين، فإنه إن كان قصةً بظاهرها خط السلطان يكتب فموضع كتابة التعيين تحت خط السلطان بظاهر القصة، ولا كتابة له عليها غير ذلك.
وإن كان رقعةً جميعها بخط كاتب السر، فإنه يكتب فيها يكتب بكذا وكذا ثم يكتب التعيين بأول ذيلها.
وإن كان قصةً رفعت إلى كاتب السر، فإنه يكتب على حاشيتها في أعاليها آخذاً من جهة أسفل القصة إلى أعلاها ما مثاله: يكتب بذلك أو يكتب بكذا وكذا ثم يكتب التعيين بحاشيتها أسفل ذلك في عرض الحاشية مميلاً للكتابة إلى جهة الأعلى قليلاً.
وإن كان قصةً عليها بخط النائب الكافل، فإنه يكتب عليها بالتعيين ليس إلا، وموضع التعيين فيها بحاشية القصة أسفل خط النائب.
وإن كان قصةً قد كتب بهامشها مرسوم الأتابك أو علق بحاشيتها رسالة الدوادار، كتب في جهة أعلى القصة: يكتب بذلك وعلى القرب منه التعيين. وإنما يكتب هنا في جهة أعلى القصة وفيما عليه خط النائب الكافل في جهة أسفلها، لأن التعليق الذي على الهامش فيما علق عن مرسوم الأتابك أو رسالة الدوادار بخط كاتب الدست الذي في خدمته، بخلاف ما عليه خط النائب بنفسه.
وإن كان الذي يقع فيه التعيين قائمةً من ديوان الوزارة، أو ديوان الخاص أو ديوان الإستدار، كتب بهامش القائمة من أعلاها مقابل كتابة المتحدث على ذلك الديوان ما مثاله: يكتب بذلك ثم يكتب التعيين تحته على القرب منه.
وإن كان الذي يقع فيه التعيين مربعة إقطعاٍ من ديوان الجيش، كتب بالتعيين في آخرها مقابل التاريخ من الجهة اليمنى، ولا كتابة له عليها غير ذلك.
قلت: وقد جرت عادة كتاب السر في زماننا أنه يكتب على القصص ونحوها، يكتب بذلك أو يكتب بكذا وكذا على ما تقدم بيانه بغير لام في أوله، وهذه اللام تسمى لآم الأمر وقد صرح الإمام أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب أنه لا يجوز حذفها. وعلى ذلك ورد لفظ القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق}. وقوله: {ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} ونحو ذلك. وحكي جمال الدين بن هشام في المغني وقد تحذف اللام في الشعر ويبقى عملها كقوله: [طويل]
فلا تستطل مني بقائي ومدتي ** ولكن يكن للخير منك نصيب

وقوله: [وافر]
محمد تفد نفسك كل نفسٍ ** إذا ما جفت من شيءٍ تبالا

.الطرف الثالث في كتابة الملخصات والإجابة عنها من الدواوين السلطانية:

قد تقدم في الكلام على ما ينظر فيه صاحب الديوان أنه لما كان صاحب ديوان الإنشاء يضيق زمنه عن استيعاب حال الكتب الواردة من المملكة لوفورها واتساع الدولة وكثرة المكاتبين، ناسب أن يتخذ كاتباً يتصفح الكتب الواردة ويتأملها، ويلخص مقاصدها، قال أبو الفضل الصوري في تذكرته: والرسم في ذلك أن الكاتب الذي يقيمه صاحب الديوان يتسلم الكتب الواردة ويخرج معانيها على ظهورها، ملخصاً الألفاظ الكثيرة في اللفظ، غير مخل بشيء من المعنى ولا محرف له، مسقطاً فضول القول وحشوه، كالدعاء والتصدير والألفاظ المترددة.
قال: ويخرج أيضاً ما يختص بديوان الخراج، من الأمور التي ترد ضمن الكتب في معنى الخراج في أوراق يعين فيها الكتب التي وصلت فيها وتاريخها والجهة التي وردت منها، وينصها على هيئتها، ويوجهها إلى ديوان الخراج، فيجاب عنها منه، ويستدعي من متولي ديوان الخراج الجواب عنها، ثم يعرض جميع ذلك على الملك، ويستخرج أمره بإمضاء المكاتبة به أو بغيره. فإن كان بخط مخالفٍ للعربي، كالرومي والفرنجي والأرمني وغيرها، أحضر من يعرف ذلك الخط ممن يوثق به ليترجمه في ظهره، فإن كان ذلك المترجم يحسن الخط العربي، كتب بخطه في ظهر الكتاب ما مثاله يقول فلان: إني حضرت إلى ديوان الإنشاء وتسلمت الرقعة أو الكتاب الذي هذا الخط بظاهره، وسئلت عن تفسيره فذكرت أنه كذا وكذا ويسرده إلى آخره وبذلك أشهدت على نفسي ويشهد عليه شاهدان: هذا الذي ذكره بلا زيادةٍ ولا نقس.
وإن كان الكتاب مشحوناً بالكلام بطناً وظهراً، نقله بخطه بالقلم الذي هو مكتوبٌ به، وترجمه على ظاهره بخطه العربي. وإن لم يحسن الكتابة بالعربي، كتب عنه الكاتب بمحضر من الشاهدين وأشهد عليه ليهاب أو يحجم فيما يقول، أو يغيره أو ينقصه لأن أكثر من يترجم على مذهب صاحب الخط، فربما كتم عنه أوداجي فيه. فإذا خوف بالإشهاد عليه وخشي أن غيره قد يقرأه على غير الوجه الذي أشهد به على نفسه ربما أدى الأمانة فيه، فإذا لخصت المكاتبة بظاهرها، سلمت إلى متولي الديوان ليقابل ظاهرها بباطنها، فإن وجده أخل فيها بشيء، أضافه بخطه وأنكر عليه إهماله ليتنبه في المستقبل. فإن لم يكن فيها خلل عرضه على الملك واعتمد أمره فيه، وكتب تحت كل فصل منها ما يجب أن يكون جواباً عنه على أحسن الوجوه وأفضلها، ثم يسلمها إلى من يكتب الجواب عنها ممن يعرف اضطلاعه بذلك، ثم يقابل الجواب بالتخريج وما وقع به تحته، فإن وجد فيها خللاً سده، أو مهملاً ذكره، أو سهواً أصلحه. وإن رآها قد كتبت على أفضل الوجوه وأسدها، لم يفوت فيها معنًى ولم يزد إلا لفظاً ينمق به كتابه ويؤكد به قوله، عرضها على الملك حينئذ ليعلم، ثم استدعى من يتولى الإلصاق فألصقها بحضرته، وجعل على كل منها بطاقةً يشير فيها إلى مضمونها، لئلا يسأل عن ذلك بعد إلصاقها فلا يعلم ما هو، ثم يسلمها إلى من يتولى تنفيذها إلى حيث أهلت له، وتسلم النسخ الملخصة إلى من يؤهله لحفظها وترتيبها.
قلت: قد تبين بما تقدم من كلام أبي الفضل الصوري ما كان عليه الحال في زمنه والذي عليه حال الديوان في زماننا فيما يتعلق بذلك أن الكتب الواردة إلى الأبواب السلطانية من أهل المملكة وغيرها من سائر الممالك يتلقاها أكبر الدوادارية، وهو مقدم ألفٍ على ما تقدم ذكره في الكلام على ترتيب الديار المصرية، ويحضر القاصد المحضر للكتاب من بريدي أو غيره، ثم ينأوله للسلطان فيفض ختامه، وكاتب السر جالسٌ بين يديه، فيدفعه السلطان إليه فيقرأه عليه ويستصحبه معه إلى الديوان، فإن كان الكتاب عربياً دفعه كاتب السر إلى نائبه أو من يخصه بذلك ليلخص معناه، فينعم النظر فيه، ويستوفي فصوله، ويلخص مقاصدها، ويكتب لكل ديوان من الدواوين التي يرفع إليها متعلق ذلك الكتاب ملخصاً بالفصول المتعلقة به في ورقة مفردة، ليجاوب عليها متولي ذلك الديوان بما رسم له من الجواب عنها.
واعلم أن الذي تكتب له الملخصات في زماننا من الدواوين السلطانية خمسة دواوين وهي: ديوان الإنشاء، وديوان الوزارة، وديوان الجيش، وديوان الخاص، وديوان الإستدارية، وهو الديوان المفرد.
والطريق إلى كتابة الملخصات أن يحذف ما في صدر الكتب من الحشو على ما تقدم في كلام أبي الفضل الصوري، ثم يعمد إلى مقاصد الكتاب فيستوفي فصوله ويتصورها بذهنه، ثم ينظر في متعلقات تلك الفصول، ويكتب لكل ديوان من الدواوين المتقدمة ملخصاً بما يتعلق به من الفصول في فصل واحد أو أكثر، بحسب ما تقتضيه قلة الكلام وكثرته.
وكيفية كتابته أن يترك من رأس الوصل قدر ثلاثة أصابع بياضاً، ثم قدر إصبعين بياضاً عن يمينه، وقدر إصبعين بياضاً عن يساره، ويكتب في صدره ما مثاله: ذكر فلانٌ في مكاتبته الواردة على يد فلان المؤرخة بكذا وكذا يمد لفظ ذكر بين جانبي الوصل، ويكتب باقي الكلام تحتها في أول الوصل إلى آخره في العرض من غير خلو بياض أنه اتفق من الأمر ما هو كذا وكذا أو أنه سأل في كذا وكذا. ثم يخلي بياضاً قدر أربعة أصابع مثلاً ويكتب في وسط الدرج بخلو بياض من الجانبين، وذكر على نحو ما تقدم، ثم يكتب باقي الكلام من أول الوصل إلى آخره، ويفعل ذلك بكل فصل في الكتاب يتعلق بذلك الديوان المختص بذلك الملخص، ويكتب في آخر كل فصل وقد عرض على المسامع الشريفة ومهما برزت به المراسيم الشريفة كان العمل بمقتضاه ونحو ذلك.
ثم إن كان الملخص لديوان الإنشاء، كتب بأعلى الوصل من ظاهره من الجانب الأيسر منه ما مثاله ديوان الإنشاء. وإن كان لديوان الجيش كتب هناك ما مثاله ديوان الجيش. وكذا ديوان الخاص وسائر الدواوين المتقدمة الذكر. فإذا كملت الملخصات، وقف عليها كاتب السر، فما كان منها متعلقاً بديوان الإنشاء عرضه على السلطان واستمطر جوابه عنه، فيكتب مقابله في الملخص يكتب بذلك أو يكتب بكذا وكذا أو رسم بذلك أو رسم بكذا وكذا. وما كان منها متعلقاً بديوان الوزارة بعث به إلى الوزير، وما كان منها متعلقاً بديوان الجيش بعث به إلى ناظر الجيِش، وما كان منها متعلقاً بديوان الخاص بعث به إلى ناظر الجيش: ليقرأ كل منهم ملخصه على السلطان وينظر ما يأمر به فيه، فما كان كتب به بجانب الفصل الذي كتب به في الملخص أمضي ذلك أو لم يمض أو رسم بكذا وكذا ونحو ذلك، وسائر الدواوين على هذا النمط.
وإن كان الكتاب غير عربي، فإن كان بالتركية المغلية ونحوها كالكتب الواردة عن بعض القانات من ملوك الشرق فإنه يتولى ترجمتها من يوثق به من أخصاء الدولة، من الأمراء أو الخاصكية ونحوهم، ممن يعرف ذلك اللسان، ثم يقرأ ترجمته على السلطان، ويعتمد ما يأمر به في جوابه ليكتب به. وإن كان بالرومية أو الفرنجية ونحوهما من اللغات المختلفة، ترجم على نحو ما تقدم وكتب ملخصه وقريء على السلطان والتمس جوابه، وكتب كاتب السر على الملخص بما رسم فيه.

.الباب الرابع من المقالة الثالثة في الفواتح والخواتم واللواحق:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في الفواتح:

وفيه ستة أطراف:

.الطرف الأول في البسملة:

وفيه ثلاث جمل:

.الجملة الأولى في أصل الافتتاح بها:

كانت قريش قبل البعثة تكتب في أول كتبها باسمك اللهم والسبب في كتابتهم ذلك ما ذكره المسعودي في مروج الذهب عن جماعةٍ من أهل المعرفة بأيام الناس وأخبار من سلف، كابن دأب، والهيثم بن عدي، وأبي مخنفٍ لوط ابن يحيى، ومحمد بن السائب الكلبي، أن أمية بن أبي الصلت الثقفي خرج إلى الشام في نفر من ثقيف وقريش في عير لهم، فلما قفلوا راجعين نزلوا منزلاً واجتمعوا لعشاشهم، إذ أقبلت حيةٌ صغيرةٌ حتى دنت منهم فحصبها بعضهم بحجر في وجهها فرجعت، فشدوا سفرتهم، ثم قاموا فشدوا على إبلهم وارتحلوا من منزلهم، فلما برزوا من المنزل، أشرفت عليهم عجوزٌ من كثيب رملٍ متوكئةٌ على عصاً، فقالت: ما منعكم أن تطعموا رحيبة، اليتيمة الصغيرة التي باتت لطعامكم عليلةً، قالوا: وما أنت؟ قالت أم العوام، أرملت منذ أعوام، أما ورب العباد، لتفرقن في البلاد، ثم ضربت بعصاها الأرض وأثارت بها الرمل، وقالت: أطيلي إيابهم، وفرقي ركابهم! فوثبت الإبل كأن على ذروة كل منها شيطاناً، ما يملكون منها شيئاً حتى افترقت في الوادي، فجمعوها من آخر النهار إلى غدوة، فلما أناخوا الرواحل طلعت عليهم العجوز وفعلت كما فعلت أولاً وعادت لمقالها الأول، فخرجت الإبل كما خرجت في اليوم الأول، فجمعوها من غدٍ. فلما أناخوها ليرحلوها، فعلت العجوز مثل فعلها في اليوم الأول والثاني فنفرت الإبل، وأمسوا في ليلة مقمرة ويئسوا من ظهورهم، فقالوا لأمية بن أبي الصلت: أين ما كنت تخبرنا به عن نفسك وعلمك؟ فقال: اذهبوا أنتم في طلب الإبل ودعوني. فتوجه إلى الكئيب الذي كانت تأتي منه العجوز حتى هبط من ثنيته الأخرى، ثم صعد كئيباً آخر حتى هبط منه، ثم رفعت له كنيسةٌ فيها قناديل ورجلٌ معترض مضطجعٌ على بابها، وإذا رجلٌ جالسٌ أبيض الرأس واللحية. قال أمية: فلما وقفت قال لي: إنك لمتبوع. قلت أجل. قال: فمن أين يأتيك صاحبك؟ قلت: من أذني اليسرى. قال: فبأي الثياب يأمرك؟ قلت: السواد. قال: هذا خطيب الجن، كدت ولم تفعل، ولكن صاحب هذا الأمر يكلمه في أذنه اليمنى، وأحب الثياب إليه البياض. فلما جاء بك وما. حاجتك؟ فحدثته حديث العجوز. فقال: هي امرأة يهودية هلك زوجها منذ أعوام، وإنها لن تزال تفعل بكم ذلك حتى تهلككم إن استطاعت قال أمية: قلت فما الحيلة قال: اجمعوا ظهركم فإذا جاءتكم وفعلت ما كانت تفعل، فقولوا سبعاً من فوق وسبعاً من أسفل باسمك اللهم فإنها لن تضركم. فرجع أمية إلى أصحابه فأخبرهم بما قيل له وجاءتهم العجوز ففعلت كما كانت تفعل فقالوا سبعاً من فوق وسبعاً من أسفل باسمك اللهم فلم تضرهم. فلما رأت الإبل لا تتحرك، قالت: قد علمكم صاحبكم، ليبيضن الله أعلاه وليسودن أسفله. وساروا فلما أدركهم الصبح، نظروا إلى أمية قد برص في غرته ورقبته وصدره واسود أسفله. فلما قدموا مكة ذكروا هذا الحديث، فكتبت قريشٌ في أول كتبها باسمك اللهم فكان أول ما كتبها أهل مكة وجاء الإسلام والأمر على ذلك.
قال إبراهيم بن محمد الشيباني: ولم تزل الكتب تفتح باسمك اللهم حتى نزله قوله تعالى: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} فاستفتح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت سنة بعده. وروى محمد بن سعد في طبقاته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كات يكتب كما تكتب قريش باسمك اللهم حتى نزل عليه {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها}. فكتب باسم الله، حتى نزل {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}، فكتب بسم الله الرحمن الرحيم. وذكر في مواد البيان نحوه.
وعن سفيان الثوري أنه كان يكره للرجل أن يكتب شيئاً حتى يكتب بسم الله الرحمن الرحيم. وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يكره أن يكتب كتاباً أو غيره حتى يبداً ببسم الله الرحمن الرحيم. وعن سعيد بن جبير أنه كان يقول: لا يصلح كتابٌ إلا أن يكون أوله بسم الله الرحمن الرحيم.
وهذه الأحاديث والآثار كلها ظاهرةٌ في استحباب الابتداء بالبسملة فيما يكتب به من أصناف المكاتبات والولايات وغيرها، وعلى ذلك مصلطح كتاب الإنشاء في القديم والحديث، إلا أنهم قد اصطلحوا على حذفها من أوائل التواقيع والمراسيم الصغار، كالتي على ظهور القصص ونحوها، وكأنهم أخذوا ذلك من مفهوم ما رواه أبو داود وابن ماجة في سننهما وأبو عوانة الأسفراييني في مسنده عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبداً فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» يعني ناقص البركة، وما يكتب في التواقيع والمراسيم الصغار ليس من الأمور المهمة فناسب ترك البسملة في أولها لكن قد ذكر محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والداوة أن أهل العلم كرهوا حذف البسملة من التواقيع والسراحات وذموه. وقد كان القاضي علاء الدين الكركي كاتب السر في الدولة الظاهرية برقوق في أول سلطنته الثانية أمر بأن يكتب في أولها بسملةٌ بقلمٍ دقيق، ثم بطل ذلك بعد موته وبقي الأمر على ما كان عليه أولاً. ثم قد اختلف في كتابتها أمام الشعر، فذهب سعيد بن المسيب والزهري إلى منع ذلك. وذهب سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي إلى جوازه. ويروى مثله عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال أبو جعفر النحاس في صناعة الكتاب ورأيت علي بن سليمان يميل إليه. قال محمد بن عمر المدائني: ولا بأس إن يكن بين الشعر وبينها كلامٌ، مثل أنشدني فلانٌ الفلاني وشبه ذلك، فأما أن يصله بها فلا يجوز.

.الجملة الثانية في الحث على تحسينها في الكتابة وما يجب من ترتيبها في الوضع:

أما الحث على تحسينها في الكتابة، فينبغي للكاتب أن يبالغ في تحسينها في الكتابة ما استطاع تعظيماً لله تعالى. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كتب بسم الله الرحمن الرحيم فحسنه أحسن الله إليه.» وعن واصلٍ مولى أبي عيينة قال: سمعت حماداً يقول: كانوا يحبون أن تحسن بسم الله الرحمن الرحيم.
وأما ما يجب من ترتيبها، فأول ما يجب من ذلك إطالة الباء لتدل على الألف المحذوفة منها لكثرة الاستعمال، ثم إثبات السين بأسنانها الثلاث، غير مرسلٍ لها إرسالاً كما يفعله بعض الكتاب، فقد كره ذلك أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، وزيد بن ثابت والحسن وابن سيرين، حتى روى أن عمر رضي الله عنه ضرب كاتباً على حذف السين منها فقيل له: فيم ضربك فقال: في سين، فجرى مثلاً. ويروى أن غلاماً لعمر بن عبد العزيز كتب إليه من مصر كتاباً ولم يجعل لبسم الله الرحمن الرحيم سيناً، فكتب إليه عمر يأمره بالقدوم إليه، فلما قدم قال: اجعل لبسم الله الرحمن الرحيم سيناً وانصرف إلى مصر. وكذلك لا يمد الباء قبل السين ثم يكتب السين بعد المدة كما يفعل بعض كتاب المغاربة، فقد روى محمد بن عمر المدائني من حديث شعيب بن أبي الأشعث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم فلا يمدها قبل السين»، يعني الباء. وعن ليثٍ عن مجاهد يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. ويروى مثله عن ابن عمر، وابن سيرين. وعن عبد العزيز ابن عبد الله وعبد الله بن دينار وغيرهما أن العلماء كانوا يكرهون ذلك وينهون عنه أشد النهي حتى روي عن الضحاك بن مزاحم أنه قال: وددت أني لو رأيت الأيدي تقطع فيه. نعم يستحب المد بين السين والميم كما هو عادة كتاب المصريين وأهل المشرق. وكذلك استحسنوا مد الحاء من الرحمن قبل الميم وقالوا: إنه من حسن البيان، حتى يروى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم فليمد الرحمن. وهذا مما يتعاطاه كتاب المغرب دون كتاب مصر وأهل المشرق. أما غير ذلك من وجوه التحسين فيأتي الكلام عليه في الكلام على الخط إن شاء الله تعالى.